علي عبدالله صالح… رجل الديمقراطية وقاهر التحديات

قرية “بيت الأحمر”، ليست منبعا للمعادن الطبيعية من ذهب وفضة ونفط وغيرها. كم ا أن موقعها الجغرافي لا يؤهلها كي تكتسب أهميتها الكبيرة كما هو حال مناطق وقرى عديدة خصها الله بهكذا مميزات فكانت شهرتها تبعا لذلك. فهي مجرد قرية صغيرة تقبع على قمة ربوة تقع في ناحية سنحان شرقا وتبعد حوالي 30 كم جنوب شرقي صنعاء، غير أنها نالت قسطا وافرا من الشهرة.
وكانت أهميتها في عهد الإمامة كما يشير كتاب “قائد ووطن ثلاثة عقود من التحولات” الصادر عن إدارة التوجيه المعنوي بالقوات المسلحة تنحصر: بمقدار ما يقدمه أهلها من خراج للإمام..” رغم عوزهم وفقرهم.

و ما بين الأربعينيات والستينيات من القرن العشرين قدر لهذه القرية الوادعة أن تشهد مخاضا صعبا مصحوب بألم الحرمان من العيش الكريم، وحرية الانعتاق من ربقة الجهل والتخلف الأمامي الذي كانت تعاني منه اليمن.

ومع مرور الأيام كشفت الأحداث والوقائع أن هذا المخاض المؤلم لم يكن يخبئ حملا لذاتها، بل حملا ثقيلا بحجم الوطن. ومن هنا بدأت تتكشف أسارير أهمية هذه القرية وشهرتها التي بلغتها حتى اليوم.

وإذا كان ميلاد علي عبدالله صالح أحد أبنائها صادف العام 1942 فإن في مرحلة الستينيات من القرن الماضي شهدت ميلادا جديدا ومثيرا.

“بيت الأحمر التي بالكاد رؤيتها على الخارطة الجغرافية لمنطقة سنحان أصبحت خلال مرحلة الستينيات أحد المعالم الوطنية البارزة كبؤرة ثورية ومدرسة نضالية أفرزت العديد من القيادات الوطنية والسياسية والعسكرية”. عدا ذلك تفتحت في هذه المرحلة “على ضوء أنوارها الساطعة عينا أعظم رجالات التاريخ اليمني المعاصر”.

علم الجمهورية

أتحدت في سنحان كما يبدو عوامل عديدة مكونة فعلا ثوريا كانت اليمن في مساس الحاجة إليه، فالفقر والحرمان والاستبداد والجهل كعناصر محفزة لميلاد هذا الفعل وجدت في نفوس الشباب المتوقدة بالحرية والحماس والفاعلية والإقدام حاملها الحقيقي الذي اتحدت معه لإتمام الفعل الثوري وإحالته إلى واقع ملموس في صورة ثورة هزت مضاجع الطغيان، ويسجل التاريخ لهذه المنطقة الصغيرة دورا هاما وفاعلا فيها. ومع مرور الوقت أتسع هذا الدور ليشمل أبعادا أكثر أهمية على امتداد جغرافية الوطن الكبير.

“شارك أبناؤها في صناعة الفجر الثوري السبتمبري وخاضوا ببسالة وإقدام كل معارك الدفاع عن الثورة والجمهورية ولا شك أن الفعل الثوري الوطني لهذه الكوكبة من المناضلين جعل من قرية بيت الأحمر وبجانبها عددا قليلا من قرى سنحان مواقع متقدمة للدفاع عن الثورة ونظامها الجمهوري بل أنها كانت في أحايين كثيرة القرية الوحيدة التي ترفع على منازلها وجبالها أعلام الجمهورية”.

ذلك يعني أنها تحدت الظروف القاهرة آنذاك لتعلن الميلاد الأول للجمهورية من على قمم جبالها وسطوح منازلها، قبل أن تولد في العاصمة صنعاء.

ومثلما يشرح الكتاب –المصدر الرئيسي في كتابة هذه المادة- الظروف التي رافقت ميلاد ونشأة علي عبدالله صالح والتحولات التي رافقت مسيرته منذ أن تولى رئاسة الجمهورية العربية اليمنية في 17 يوليو 1978 وحتى توليه رئاسة الجمهورية اليمنية في 22 مايو 1990 يقدم في المقابل صورة لمراحل ومحطات هامة من تاريخ اليمن، فضلا على سجايا وخصال عديدة كونت شخصية الرئيس منذ اليوم الأول، وسط كم كبير من التحديات التي ظلت تلازمه.

وفاة الأب

في أسرة فقيرة كانت بالكاد توفر قوت يومها، ولد علي عبدالله صالح. وعند ميلاده كما يبدو ولدت تحديات جديدة لم تكن الأسرة تتوقها أو تقوى على قهرها في ظل الواقع الصعب المفروض عليها وعلى غيرها من الأسر من قبل عسكر الإمام وحاشيته، ولم تكن تعلم الغيب لتدرك أن تلك التحديدات ما هي إلا إرهاصات لميلاد عهد يمني جديد على يدي ذلك المولود الصغير.

بعد ثمانية أشهر من ميلاد علي عبدالله صالح توفي والده ليشكل ذلك عبئا إضافيا على الأسرة الفلاحية الفقيرة التي كان “علي” ثالث أبنائها كما شكل ذلك تحديا أمامه في مقابل شعوره المبكر بأنه رجل البيت الأول عند غياب الأخوين الأكبر منه.

“.. أسرته مثل غيرها من الأسر اليمنية الفلاحية كانت لا تحصل على لقمة العيش إلا بما تستطيع أن تقدمه من عمل مضنٍ وجهد جماعي متواصل طوال أيام السنة في أرض صغيرة لا تنتج سوى الكفاف الذي كان يذهب معظمه إلى خزائن الأئمة كزكاة وإتاوات وأجر جنود، وهذه الصورة البائسة للواقع تعكس حقيقة ما كان يكابده على عبدالله صالح أسوة بجميع الأطفال اليمنيين الذي يجدون أنفسهم منذ السنوات الأولى في دوامة العمل الشاق والمتواصل.

ولم يكن أمامه غير توطين نفسه على تحمل مسؤولية المشاركة الفاعلة في إعالة نفسه وأسرته بالمزيد من تسخير الطاقات والملكات الذهنية والنفسية ليكون محل ثقة من حوله وقادرا على المضي في هذا الواجب”.

في الكُتاب

كان ما يزال طفلا حينما التحق للمرة الأولى ب”الكُتاب” في مسجد القرية، وهو المدرسة الممكنة والمتاحة أمام الأغلبية الساحقة من أطفال اليمن في ذلك الوقت. لقد وجد في “الكتاب” لأول مرة متعة الطفولة الحقيقية ومرحها مع أترابه من أبناء القرية أمثال: محمد إسماعيل وعلي محسن وصالح الضنين وعبدالله القاضي وغيرهم. كما وجد في ذلك استراحة نسبية من عنائه وكدحه اليومي والشاق في الزراعة ورعي الأغنام.

إلا أن “الكتاب” عشيق الطفولة الذي وجد فيه ما كان يبحث عنه ولم يدرك ماهيته والمتمثل في إشباع نهمه الفطري وغريزته التواقة إلى المعرفة أبى إلا أن يلفظه خارج جدرانه وكان ذلك بمثابة التحدي الثاني إذ عجزت أسرته عن دفع تكاليف تعلم القران الكريم المحدودة. ومثلت هذه الحادثة أول انتكاسة لآماله المشروعة وطموحاته الكبيرة بعد موت أبيه وقد تركت في نفسه جرحا غائرا. “إلا أنها لعبت فيما بعد دورا حاسما في تحديد سلوكه ونشاطه وقراراته وتوجهاته العملية اللاحقة على الصعيد الشخصي والوطني”.

مدرسة الأيتام

بعد عجز أسرته عن دفع تكاليف الدراسة في الكتاب حاولت الدفع به إلى التعليم الحكومي وإلحاقه بأحد مدارسه الثلاث التي كانت موجودة في العاصمة صنعاء، ولكن دون جدوى، فهذه المدارس المحدودة كانت حكرا على الصفوة من الناس وأبناء الأسر الحاكمة والمقربين منها ومحرمة على العامة من أبناء الشعب.

وكما يبدو مثلت هذه الواقعة تحديا ثالثا يضاف إلى ما سبق. إلا أن رفض قبوله في واحدة من هذه المدارس لم يمنع أسرته من مواصلة جهودها في البحث عن فرصة أخرى لتدريس ابنها، وكانت هذه المرة في مدرسة الأيتام الوحيدة في العاصمة صنعاء، ولم يكن ذلك سهلا من حيث الجهد والأموال المطلوبة لذلك اضطرت الأسرة الحريصة على تعليم ابنها إلى بيع جزء من أراضيها لتوفير النفقات اللازمة لاستصدار حكم شرعي يثبت يتم ابنها والحاقة بمدرسة الأيتام.

وفي مدرسة الأيتام، ومن رحم المعاناة التي كان يعيشها طلابها، تخرج الكثير من المناضلين الوطنيين الذين حملوا راية النضال لتغيير الواقع منهم: عبدالله السلال واحمد حسين المروني واحمد الحورش ومحيي الدين العنسي واحمد البراق وغيرهم من المناضلين.

علي عبدالله صالح لم يطُل به المقام هناك إذ ذهب باحثا عن الحلم الذي راوده منذ الطفولة (النزعة القيادية.. الجندية) هذا الحلم مثل تعبيرا صادقا عن الإحساس العميق بمعاناة المواطنين وقهرهم من قبل عسكر الإمام.

الجندية

في العام 1958 التحق علي عبدالله صالح بالقوات المسلحة بعد نجاحه في تجاوز حواجز ومعوقات جمة وقفت في طريقه وخياراته المستقبلية، ولم يكن هذا الالتحاق سهلا، إذ وقفت عوامل مختلفة حائلا أمامه وأمام الكثير من أبناء الشعب في الالتحاق بالجندية فكان لا بد من توفر “”الكفالة” و”الضمانة” من شيخ المنطقة أو العاقل وكذا الكشف الطبي لمن يريد أن يلتحق بالجندية، ولما توفر له ذلك، رفض التحاقه بحجة صغر سنه، وبعد محاولات عديدة قادها الشيخ علي صالح علوان جاء التحاق علي عبدالله صالح بالجيش. ومما قاله هذا الشيخ لمسؤول التجنيد ويدعى “القملي”: “هذا الرجل الذي نريده يلتحق بالجيش لا يغرك سنه لأن شجاعته وقوته وذكاءه يفوق سنه”. وفي عبارة أخرى قال: “هذا الفتى سيصبح أمير الجيش (قائد الجيش)”. ودارت الأيام، ومما يرويه الشيخ محمد محسن الاحمر “أن مسؤول التجنيد الملكي الذي اقتنع -بصعوبة- بقبول علي عبدالله صالح في الجندية كان قد التقى الشيخ علي صالح علوان في العام 1978 بعد انتخاب علي عبدالله صالح رئيسا للجمهورية، فقال مسؤول التجنيد للشيخ علوان: “صاحبك صار رئيسا لليمن وليس أميرا للجيش”.

ومثل انضمامه إلى سلك الجندية البداية الحقيقية لعملية البناء الذاتي مهنيا وعلميا وثقافيا وسياسيا ويقول عن هذه المرحلة: “بعد التحاقي بالجيش بدأت في تطوير نفسي تعليميا أطالع وأقرأ وأجالس الآخرين واستمع وأنصت وأقرأ معهم ولهم حتى استطعت أن أكون في مستوى معرفي لا بأس به”. ولم تكد تمضي سنتان على التحاقه بسلك الجندية حتى تم اختياره ضمن المرشحين للتأهيل في مدرسة صف الضباط وذلك العام 1960 ليتخرج فيها برتبة عريف. وفي الأشهر الأولى التي أعقبت انتصار الثورة رقي إلى رتبة مساعد، وفي العام 63 رقي إلى رتبة ملازم. وقد خرج من إحدى معارك الدفاع عن الجمهورية في ذلك الوقت حاملا أول جراحاته، وفي نهاية ذلك العام أصيب مرة ثانية في إحدى المعارك في المنطقة الشرقية لمدينة صنعاء. وبالنسبة لتنظيم الضباط الأحرار فبعد تشكيله كان علي عبدالله صالح ضمن عدد من صف الضباط المتعاطين مع هذا التنظيم والمتعاونين معه وقد ساهم في تنفيذ العديد من المهام الوطنية الثورية آنذاك.

حصار السبعين

أثناء فترة الإعداد لمعارك الدفاع عن صنعاء كان الملازم علي عبدالله صالح يشغل منصب مدير تسليح مدرسة المدرعات وقد أنيطت به مع رفاقه الثوريين مهمة ترميم وإصلاح الدبابات التي تضررت خلال المعارك السابقة وكانت مهمة صعبة في ظل عدم توفر الإمكانات المادية وقطع الغيار والخبرات الفنية المتقدمة إلا أن هذا الفريق تمكن وخلال فترة قياسية من إعادة الجاهزية الفنية القتالية لأكثر من ثلاثين دبابة وكان هذا الرقم يوازي تقريبا نصف الدبابات التي اشتركت في معارك الدفاع عن صنعاء. كما تولى أيضا الإشراف على تسليح رجال المقاومة الشعبية وتواصل مع أهله وأبناء منطقته سنحان لتشكيل فرق من المتطوعين والجيش الشعبي الذين وصلوا إلى صنعاء للدفاع عنها.

وبالقدر الذي كانت فيه معارك الدفاع عن صنعاء كما يستشف ذلك من سطور الكتاب امتحانا عسيرا لمدى جدية الثورة وواقعيتها وقدرتها على الصمود، كانت في المقابل امتحانا حقيقيا للضابط الشاب على عبدالله صالح الذي أبلى فيها بلاء حسنا وبرزت من خلالها صفاته القيادية البطولية والإنسانية المختلفة.

في تعز

مثلما لعبت هذه المدينة دورا كبيرا في احتضان القيادات والعناصر الثورية اليمنية من الشمال والجنوب أثناء معاركهم ضد الإمامة والاستعمار وكانت بمثابة الملهم، واختمرت فيها الكثير من الأفكار والخطط التحريرية، هي الأخرى كانت محطة هامة في مسيرة علي عبدالله صالح تولدت فيها صفات قيادية نادرة للقائد الشاب على رقعة جغرافية واسعة.

ويشير الكتاب إلى أنه وبعد حركة 13 يونيو التصحيحية 1974 التي أسهم علي عبدالله صالح في دعمها وكان أحد أقطابها الرئيسية إلى جانب الرئيس إبراهيم الحمدي جاء تعيينه قائدا للواء خالد بن الوليد في تعز وقد وجد إبراهيم الحمدي في علي عبدالله صالح شخصية قيادية فذة، أهلته لهذا الموقع الكبير حيث كان معسكر خالد بن الوليد من أهم المحاور العسكرية في الجمهورية من حيث القوة والتعداد والمساحة الجغرافية التي تضم قطاع باب المندب والمنوط به حماية أهم وأخطر الممرات البحرية في المنطقة. كما أن التعيين لم يخلُ من أبعاد سياسية نظرا لأهمية ومكانة محافظة تعز بالنسبة للدولة باعتبارها أهم المراكز الحضرية واكبر المحافظات سكانا وتأتي في الصدارة من حيث تطور مكونها الاجتماعي اقتصاديا وثقافيا وعلميا كما أنها تمثل أحد مراكز النشاط السياسي الذي تتفاعل فيه مختلف التيارات السياسية والفكرية والحزبية.

وهناك نجح علي عبدالله صالح في تقويض الأعمال العسكرية التخريبية لما كان يسمى بالجبهة الوطنية والحد من نشاطاتها الفكرية والسياسية والإعلامية والدعائية في أوساط السكان وقاد الكثير من المعارك الناجحة ضد هذه الجماعات التخريبية وتدمير بنيتها التحتية وخطوطها اللوجستية وجعل منها مجرد ظاهرة إعلامية.

كما لعب دورا حاسما في القضاء على التمردات والاضطرابات التي حفلت بها الشهور القليلة من حكم الرئيس الغشمي ففي نوفمبر 1977 نجح في القضاء على هجوم مسلح قامت به عناصر الجبهة الوطنية في محاولة للسيطرة على منطقة “الحجرية” الوعرة حيث اعتقلت عددا من وجاهات المنطقة وعلمائها وتمكن من خلال عملية عسكرية خاطفة وبدعم من الكتيبة التي كان يقودها محمد عبدالله صالح من القضاء على فلول التخريب وتحرير الرهائن الخمسين قبل أن تداهمهم النيران التي أضرمها المخربون في المبنى وتمكن من القضاء على التمردات العسكرية بقيادة عبدالله عبدالعالم الذي احتل مدينة التربة وقتل أتباعه عددا من مشائخ ووجهاء تعز.

العاصفة

أواخر السبعينيات من القرن الماضي شهد اليمن شمالا وجنوبا أحداثا مؤلمة وعاصفة، ففي ظرف تسعة أشهر تقريبا فقدت ثلاثة رؤساء، ففي 11 اكتوبر 77 اغتيل الرئيس إبراهيم الحمدي، وفي 24 يونيو 78 اغتيل الرئيس احمد الغشمي بواسطة حقيبة ملغومة حملها إليه مندوب من عدن، وفي 26 يونيو أعدم الرئيس سالم ربيع علي “سالمين” على يد رفاقه في عدن.

ويوم اغتيال احمد الغشمي كان الرائد علي عبدالله صالح في معسكر خالد بن الوليد يستعرض طابور الجند في انتظار رئيس هيئة الأركان العامة احمد الشيبة الذي سيشارك أفراد اللواء احتفالهم بمناسبة تقليد مجموعة من الضباط والجنود وصف الضباط المتفوقين الأوسمة والنياشين. وعبر مكالمة هاتفية قصيرة تلقاها من صنعاء علم بحادثة الانفجار داخل مقر القيادة دون تفاصيل ثم تلقى اتصالا من رئيس الأركان يعتذر فيها لإلغاء مراسيم توزيع الأوسمة بحجة أن الإدارة العامة طلبت منه العودة إلى صنعاء لأمر طارئ وهام جدا وفي تلك الإثناء شعر علي عبدالله صالح بأن الواجب يحتم عليه في مثل هذه الظروف أن يكون في صنعاء وألح على رئيس هيئة الأركان ضرورة الهبوط في تعز ليتسنى له مرافقته والوقوف على حقيقة ما يدور، وبعد حوار مطول أقنع الشيبة بالهبوط في تعز لاصطحابه معه إلى صنعاء.

وفي صنعاء انسل الرائد علي عبدالله صالح من بين مرافقيه متوجها إلى أحد معسكرات العاصمة القريب من المطار حيث كانت أحد كتائب الدبابات في جاهزيتها القتالية متحركة صوب المدينة وهناك علم باغتيال الرئيس. كان الموقف خطيرا ولا خيار أمامه وأمام الوطن إلا إيقاف تدهور الأوضاع والحيلولة دون حصول كارثة وطنية محتملة إذ أوقف مهمة حركة الدبابات وإلغاء مهمتها القتالية وساعده في ذلك قائد الكتيبة الذي أدرك خطورة الموقف ومسئؤوليته الوطنية إزاءه تحتم عليه تنفيذ أوامر علي عبدالله صالح الذي استطاع تجنيب الوطن فتنة حرب داخلية جديدة.

كما حتمت عليه المصلحة الوطنية أيضا توجيه أوامر قضت بالسيطرة على الوضع داخل وحدات القوات المسلحة ومنع استخدامها وتشكيل سياج أمني قوي حول المؤسسات والمنشآت الحكومية الهامة، وفرض واقع اأقرب إلى حالة الطوارئ.

ثم توجه إلى مقر القيادة لينضم إلى المجتمعين. وكانت هذه الإجراءات الاحترازية التي فرضها الرائد علي عبدالله صالح في الساعات الأولى من اغتيال الرئيس الغشمي فرضت وجوده الفاعل على الساحة الوطنية السياسية. وفي الاجتماع تم الاتفاق على صيغة انتقالية للحكم عبر مجلس رئاسة مؤقت برئاسة القاضي عبدالكريم العرشي رئيس مجلس الشعب التأسيسي وعضوية كل من: رئيس مجلس الوزراء عبدالعزيز عبدالغني ورئيس هيئة الأركان العامة المقدم علي صالح الشيبة وقائد لواء تعز الرائد علي عبدالله صالح.

في اليوم التالي 25/ 6/ 1978 أجريت تغييرات في قيادة الجيش بموجب قرار رئيس مجلس الرئاسة المؤقت الذي قضى بتعيين المقدم علي صالح الشيبة قائدا عاما للقوات المسلحة وترقية الرائد علي عبدالله صالح إلى رتبة مقدم وتعيينه رئيسا لهيئة الأركان العامة. وبالإعلان الرسمي للشعب عن تشكيلة القيادة المؤقتة ظهر علي عبدالله صالح على الساحة الوطنية والدولية كنجم سياسي جديد وقد لفت إليه الأنظار كونه الرجل الوحيد من بين أعضاء المجلس الذي لم يعرف توليه أي مناصب سياسية سابقة.

مرحلة جديدة

في 17 يوليو 1987 كان علي عبدالله صالح على موعد مع يوم جديد وعهد جديد، إذ أفضت وقائع الجلسة التي احتضنها مقر مجلس الشعب التأسيسي إلى انتخاب “المقدم علي عبدالله صالح رئيسا للجمهورية وقائدا عاما للقوات المسلحة بأغلبية ستة وسبعين صوتا وامتناع عضو واحد عن التصويت وغياب تسعة عشر عضوا وثلاثة متوفون”. ومن هنا بدأ علي عبدالله صالح عهده الجديد واضعا أقدامه بثبات في الطريق نحو المستقبل، وكانت أهم ملامح خطابه الأول قد حددت أولويات اهتماماته “الحفاظ على مبادئ الثورة، الوحدة، التسامح، التنمية والإصلاح، المساواة، القوات المسلحة، العلاقات الخارجية على قاعدة مصالح مشتركة..”. وقد مثلت هذه الأولويات تحديا جديدا أمامه في ظل ظروف استثنائية كانت يتعيشها اليمن إلا أن إصرار وصلابة الرئيس الشاب الذي كان في الـ36 من عمره تقريبا حينما جلس للمرة الأولى على كرسي مفخخ جعلته يشق الطريق صوب تحقيق هذه الأهداف بعزيمة لا تلين ولم تخلُ المرحلة التي أعقبت توليه الرئاسة من تحديات كبيرة كادت أن تعصف باستقرار الوطن والعودة به من جديد إلى أتون الانفلات والفوضى وكانت أبرز تلك التحديات على الأرض “حرب 1979” والتي كان طرفاها النظام الجمهوري بقيادة الرئيس علي عبدالله صالح والجبهة الوطنية الديمقراطية المدعومة من نظام عدن “في 5/1/1979 اتفقت جبهة 13 يونيو والجبهة الوطنية الديمقراطية على توحيد قوى وأعمال الجبهتين وتوسيع نطاق الحرب ضد النظام الجديد وإسقاطه وكان ذلك نذير توسيع المواجهة الحتمية مع النظام في عدن الذي فهم نتائج الانقلاب الناصري بشكل خاطئ واعتبره إضعافا للنظام وتجريده الكثير من عناصر قوته الاجتماعية والعسكرية والسياسية، احتدم الصراع على طول الحدود لتصل ذروته في 20 فبراير 1979 عندما شنت الجبهة والجيش الجنوبي هجوما واسعا باستخدام مختلف الأسلحة وأساليب وجرائم إرهابية مريعة بهدف إرهاب المواطنين وإجبارهم على الانصياع لإرادة الجبهة الوطنية، وتمكنت القوات المهاجمة من اجتياح مناطق واسعة على الحدود وشكلت تهديدا خطيرا على مستقبل النظام”. وقد اعتمد الرئيس لإفشال ذلك المخطط على المعركة السياسية إذ نجح في تعبئة طاقات الشعب في الشطرين ضد الحرب وإذكاء روح الوحدة في وجدانه، كما قدم للعالم صورة واضحة عن حقيقة هذه الحرب وأبعادها على الاستقرار الإقليمي مضفيا البعد القومي والإسلامي على هذا الموقف وقد تجلى ذلك بتدخل الجامعة العربية التي أوصى ممثلوها من العراق وسورية والأردن بوقف الأعمال القتالية اعتبارا من 3 مارس 79 وقد توج ذلك بعقد قمة للطرفين في الكويت خلال الفترة من 28-30 مارس 1979 انتهت بتوقيع اتفاقية الكويت التي مثلت انطلاقه نوعية في المسار الوحدوي اليمني لاحقا.

وكان الرئيس قد بدأ جولته الخارجية المكوكية الأولى في نهاية ديسمبر 78 إلى كل من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقد تكللت بالنجاح على أكثر من صعيد.

الحوار، التسامح، الديمقراطية، الوحدة

لم يكن الحوار مجرد شعار عند الرئيس علي عبدالله صالح، بل كان قاعدة ثابتة اعتمد عليها منذ اليوم الأول لتوليه كرسي الرئاسة، فقد أوكل إلى لجنة من المفكرين والعلماء والمثقفين أواخر عام 78 مهمة وضع مشروع ميثاق وطني يطرح للنقاش الجماهيري المستفيض بمشاركة مختلف قطاعات الشعب المدنية والعسكرية. ثم أصدر القرار الجمهوري رقم 5 لسنة 1980 بتشكيل لجنة الحوار الوطني بمشاركة كل القوى السياسية والشخصيات الاجتماعية، التي مارست مهامها تحت رعاية فخامته ودعمه إلى أن انتهت من صياغة الميثاق الوطني الذي خضع لاستبيان المؤتمرات الشعبية (250 مؤتمرا شعبيا) قبل إقراره بشكل نهائي في المؤتمر الأول للمؤتمر الشعبي العام الذي انعقد خلال الفترة 24-29 اغسطس 1982 والذي أقر النظام السياسي وانتخب فخامة الرئيس علي عبدالله صالح أمينا عاما للمؤتمر.

وتجلت أولى بذرات التسامح عندما عفا عن قادة حزب الوحدة الشعبية “حوشي” بقيادة سلطان احمد عمر، داعيا إياه إلى طاولة واحدة للتحاور ومن دون تحفظ، وبذلك كان احتواء آثار حرب 1979 التي كان “حوشي” عنصرا رئيسيا فيها ومن ثم الحوار مع قادة الجبهة الوطنية الديمقراطية. وامتدت بذرات العفو لتشمل الناصريين إثر المحاولة الانقلابية الفاشلة في اكتوبر 78 وعبدالله الاصنج وكان أبرزها العفو عن قائمة الـ16 التي أفرزتها فتنة حرب 1994 وإعلان الانفصال.

وفيما يتعلق بالديمقراطية فقد بدا عهده بتدشين أول انتخابات بلدية في شهر يوليو 1979 ثم في 1985 انتخابات الهيئات الإدارية للمجالس المحلية للتطوير التعاوني وتواصل النهج والمشوار بعد تحقيق الوحدة المباركة فشهدت البلاد أول انتخابات محلية العام 2001 بمشاركة تسعة أحزاب سياسية بالإضافة إلى المستقلين. وتخللت هذه الفترة من عهد الرئيس انتخابات برلمانية ورئاسية ومحلية وصدور عدد من القوانين المتعلقة بذلك وكان آخرها هذه الانتخابات في العام 2006 وكانت ابرز انتخابات رئاسية تنافسية تشهدها البلاد.

وأسهم الانفتاح الذي تميز به الرئيس في تنشيط الحياة السياسية والديمقراطية فكانت الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والصحافة والإعلام ثمرة لمسها الجميع في فترة جيزة.

وعن تكريم الرؤساء السابقين والمناضلين ودعوتهم للعيش في الوطن فلم يوفر الرئيس جهدا في ذلك فقد شمل تكريمه واهتمامه كلاًّ من: الرئيس السلال والقاضي عبدالرحمن الارياني والمناضل احمد محمد النعمان وغيرهم من المناضلين.

وعن الوحدة يقدم الكتاب إحصائية موثقة عن اللقاءات التي سبقت تحققها وكان الرئيس علي عبدالله صالح عنصرا فاعلا فيها وقد بدأ المشوار في 30 مارس 1979 في الكويت من خلال لقاء جمع الرئيس علي عبد الله صالح مع أخيه الرئيس عبدالفتاح إسماعيل وانتهى بالإعلان عن تحقيق الوحدة في 22مايو 1990 وخلال هذه المدة جرت عدة لقاءات وزيارات كانت سبعة لقاءات منها مع الرئيس علي ناصر محمد ولقاء مع حيدر ابو بكر العطاس في ليبيا وما يقارب سبعة لقاءات مع علي سالم البيض عدا لقاءات اللجان المشتركة وزيارات الرئيس لعدن التي بدأها في 30 نوفمبر 1981 وتلتها عدة زيارات إلى أن تحققت الوحدة وأصبح رئيسا لليمن الموحد.

ويتطرق الكتاب أيضا إلى حنكة الرئيس في حل الخلافات الحدودية مع الجيران بلغة الحوار والطرق السلمية وذلك مع كل من السعودية وعمان واريتريا.

الرئيس الإنسان

إضافة إلى كل هذه المحطات الهامة في حياة الرئيس علي عبد الله صالح والتي حاولنا قدر الإمكان اختزالها وتحليل البعض منها يقدم الكتاب المكون من 764 صفحة في حلة مميزة وجذابة فصول مثيرة من سيرة الرئيس التنموية والإنسانية ورحلاته الخارجية ولقاءاته مع قادة الدول في مختلف أنحاء المعمورة وتقديم رصد شامل لكل هذه الانجازات بصورة دقيقة ومبسطة ومعبرة.

وفي تقديري إن أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الكتاب هو التركيز على جانب مهم من حياة الرئيس الإنسانية والمتجسد في مشاركته في الحفلات والمناسبات العائلية كأعياد الميلاد وحفلات الأعراس وقد نقلت عين الكاميرا صورا حية تجسد بساطة هذا الرجل وقدرته على أن يكون واحدا من الناس دون تكلف أو مبالغة فضلا على مواقف إنسانية أخرى تركت وتترك خلفها دوما انطباعات رائعة عن رجل تستحق مسيرته الظافرة الممتدة على مدى ثلاثة عقود الكثير من القراءة والتأمل والاهتمام.